كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأصل هذه البيعة وتسمى بيعة الرضوان لقول الله تعالى فيها: {لَّقَدْ رَضِيَ} الخ أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل الحديبية بعث خراشًا بكسر الخاء المعجمة وفتح الراء المهملة وألف بعدها شين معجمة ابن أمية الخزاعي رسولًا إلى أهل مكة وحمله على جمل له يقال له: الثعلب يعلمهم أنه جاء معتمرًا لا يريد قتالًا فلما أتاهم وكلمهم عقروا جمله وأرادوا قتله فمنعه الأحابيش فخلوا سبيله حتى أتى الرسول صلى الله عليه وسلم فدعا عمر رضي الله تعالى عنه ليبعثه فقال: يا رسول الله إن القوم قد عرفوا عداوتي لهم وغلظي عليهم وإني لا آمن وليس بمكة أحد من بني عدي يغضب لي إن أوذيت فأرسل عثمان بن عفان فإن عشيرته بها وهم يحبونه وأنه يبلغ ما أردت فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان فأرسله إلى قريش وقال: «أخبرهم أنا لم نأت بقتال وإنما جئنا عمارًا وادعهم إلى الإسلام» وأمره عليه الصلاة والسلام أن يأتي رجالًا بمكة مؤمنين ونساء مؤمنات فيبشرهم بالفتح ويخبرهم أن الله تعالى قريبًا يظهر دينه بمكة فذهب عثمان رضي الله تعالى عنه إلى قريش وكان قد لقيه أبان بن سعيد بن العاص فنزل عن دابته وحمله عليها وأجاره فأتى قريشًا فأخبرهم فقالوا له إن شئت فطف بالبيت وأما دخولكم علينا فلا سبيل إليه فقال رضي الله تعالى عنه: ما كنت لأطوف به حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحتبسوه فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين أن عثمان قد قتل فقال عليه الصلاة والسلام: «لا نبرح حتى نناجز القوم» ونادى مناديه عليه الصلاة والسلام إلا أن روح القدس قد نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره بالبيعة فأخرجوا على اسم الله تعالى فبايعوه فثار المسلمون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعوه، قال جابر كما في (صحيح مسلم) وغيره: بايعناه صلى الله عليه وسلم على أن لا نفر ولم نبايعه على الموت.
وأخرج البخاري عن سلمة بن الأكوع قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة، قيل: على أي شيء تبايعون يومئذ؟ قال: على الموت، وأخرج مسلم عن معقل بن يسار أنه كان آخذًا بأغصان الشجرة عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبايع الناس وكان أول من بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ أبا سنان وهو وهب بن محصن أخو عكاشة بن محصن، وقيل: سنان بن أبي سنان، وروى الأول البيهقي في (الدلائل) عن الشعبي وأنه قال للنبي عليه الصلاة والسلام: ابسط يدك أبايعك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «علام تبايعني؟» قال: على ما في نفسك.
وفي حديث جابر الذي أخرجه مسلم أنه قال: بايعناه عليه الصلاة والسلام وعمر رضي الله تعالى عنه آخد بيده، ولعل ذلك ليس في مبدأ البيعة وإلا ففي (صحيح البخاري) عن نافع أن عمر رضي الله تعالى عنه يوم الحديبية أرسل ابنه عبد الله إلى فرس له عند رجل من الأنصار أن يأتي به ليقاتل عليه ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع عند الشجرة وعمر لا يدري بذلك فبايعه عبد الله ثم ذهب إلى الفرس فجاء به إلى عمر وعمر رضي الله تعالى عنه يستلئم للقتال فأخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع تحت الشجرة فانطلق فذهب معه حتى بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وصح أنه صلى الله عليه وسلم ضرب بيده اليمنى على يده الأخرى وقال: «هذه بيعة عثمان» ولما سمع المشركون بالبيعة خافوا وبعثوا عثمان رضي الله تعالى عنه وجماعة من المسلمين وكانت عدة المؤمنين ألفًا وأربعمائة على الأصح عند أكثر المحدثين ورواه البخاري عن جابر، وروى عن سعيد بن قتادة قال: قلت لسعيد بن المسيب بلغني أن جابر بن عبد الله كان يقول: كانوا أربع عشرة مائة فقال لي سعيد: حدثني جابر كانوا خمس عشرة مائة الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعه أبو داود.
وروى أيضًا عن عبد الله بن أوفى قال: كان أصحاب الشجرة ألفًا وثلثمائة، وعند أبي شيبة من حديث سلمة بن الأكوع أنهم كانوا ألفًا وسبعمائة، وجزم موسى بن عقبة بأنهم كانوا ألفًا وستمائة، وحكى ابن سعد أنهم ألف وخمسمائة وخمسة وعشرون، وجمع بين الروايات بأنها بناء على عد الجميع أو ترك الأصاغر والأتباع والأوساط أو نحو ذلك؛ وأما قول ابن إسحاق: إنهم كانوا سبعمائة فلم يوافقه أحد عليه لأنه قاله استنباطًا من من قول جابر: تنحر البدنة عن عشرة وكانوا نحروا سبعين بدنة، وهذا لا يدل على أنهم ما كانوا نحروا غير البدن مع أن بعضهم كأبي قتادة لم يكن أحرم أصلًا، والشجرة كانت سمرة، والمشهور أن الناس كانوا يأتونها فيصلون عندها فبلغ ذلك عمر رضي الله تعالى عنه فأمر بقطعها خشية الفتنة بها لقرب الجاهلية وعبادة غير الله تعالى فيهم.
وفي (الصحيحين) من حديث طارق بن عبد الرحمن قال: انطلقت حاجًا فمررت بقوم يصلون قلت: ما هذا المسجد؟ قالوا: هذه الشجرة حيث بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان فأتيت سعيد بن المسيب فأخبرته فقال: حدثني أبي أنه كان ممن بايع رسول الله عليه الصلاة والسلام تحت الشجرة قال: فلما كان من العام المقبل نسيناها فلم نقدر عليها ثم قال سعيد: إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لم يعلموها وعلمتموها أنتم فأيكم أعلم، والرضا يقابل السخط وقد يستعمل بعن والباء ويعدي بنفسه وهو مع عن إنما يدخل على العين لا المعنى ولكن باعتبار صدور معنى منه يوجب الرضا وما في الآية من هذا القسم، والمعنى الموجب للرضا فيها هو المبايعة، وإذا ذكر مع العين معنى الباء فقيل رضيت عن زيد بإحسانه كانت الباء للسببية وجاز أن تكون صلة وتتعين للسببية مع مقابلة نحو سخطت عليه بإساءته وهو مع الباء نحو رضيت به يجب دخوله على المعنى إلا إذا دخل على الذات تمهيدًا للمعنى ليكون أبلغ فتقول رضيت بقضاء الله تعالى ورضيت بالله تعالى ربًا وقاضيًا، وإذا عدى بنفسه جاز دخوله على الذات نحو رضيت زيدًا وإن كان باعتبار المعنى تنبيهًا على أن كله مرضي بتلك الخصلة، وفيه مبالغة، وجاز دخوله على المعنى كرضيت إمارة فلان، والأول أكثر استعمالًا، وإذا استعمل مع اللام تعدى بنفسه كقولك: رضيت لك التجارة، وفيه تجوز إما لجعل الرضا مجازًا عن الاستحماد وإما لأنك جعلت كونه مرضيًا له بمنزلة كونه مرضيًا لك مبالغة في أنه في نفسه مرضي محمود وإنك تختار له ما تختار لنفسك وهذا أبلغ، ثم هو في حق الحق تعالى شأنه محال عند الخلف قالوا: لأنه سبحانه لا تحدث له صفة عقيب أمر البتة، فهو عندهم مجاز إما من أسماء الصفات إذا فسر بإرادة أن يثيبهم إثابة من رضي عمن تحت يده، وأما من أسماء الأفعال إذا فسر بالإثابة وكذا إذا أريد الاستحماد؛ وفي (البحر) أن العامل بإذ في الآية هو رضي وهو هنا بمعنى إظهار النعم عليهم فهو صفة فعل لا صفة ذات ليتقيد بالزمان، وأنت تعلم أن السلف لا يؤولون مثل ذلك ويثبتونه له تعالى على الوجه اللائق به سبحانه ويصرفون الحدوث الذي يستدعيه التقييد بالزمان إلى التعلق، ثم إن تقييد الرضا بزمان المبايعة يشعر بعليتها له فلا حاجة إلى جعل إذ للتعليل، والتعبير بالمضارع لاستحضار صورة المبايعة، وقوله سبحانه: {تَحْتَ الشجرة} إما متعلق بيبايعونك أو بمحذوف هو حال من مفعوله، وفي التقييد بذلك إشارة إلى مزيد وقع تلك المبايعة وإنها لم تكن عن خوف منه عليه الصلاة والسلامولذا استوجب رضا الله تعالى الذي لا يعادله شيء ويستتبع ما لا يكاد يخطر على بال ويكفي فيما ترتب على ذلك ما أخرج أحمد عن جابر ومسلم عن أم بشر عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة»
وقد قال عليه الصلاة والسلام ذلك عند حفصة فقالت: بلى يا رسول الله فانتهرها فقالت: {وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} [مريم: 71] فقال عليه الصلاة والسلام قد قال الله تعالى: {ثُمَّ نُنَجّى الذين اتقوا وَّنَذَرُ الظالمين فِيهَا جِثِيًّا} [مريم: 72].
وصح برواية الشيخين وغيرهما في أولئك المؤمنين من حديث جابر أنه صلى الله عليه وسلم قال لهم: «أنتم خير أهل الأرض» فينبغي لكل من يدعي الإسلام حبهم وتعظيمهم والرضا عنهم وإن كان غير ذلك لا يضرهم بعد رضا الله تعالى عنهم، وعثمان منهم بل كان يد رسول الله صلى الله عليه وسلم له رضي الله تعالى عنه كما قال أنس خيرًا من أيديهم أنفسهم {فَعَلَىَّ مَا في قُلُوبِهِمْ} أي من الصدق والإخلاص في مبايعتهم، وروى نحو ذلك عن قتادة وابن جريج وعن الفراء، وقال الطبري ومنذر بن سعيد: من الايمان وصحته وحب الدين والحرص عليه، وقيل: من الهم والأنف من لين الجانب للمشركين وصلحهم، واستحسنه أبو حيان والأول عندي أحسن.
وهو عطف على {يُبَايِعُونَكَ} لما عرفت من أنه بمعنى بايعوك، وجوز عطفه على {رّضِىَ} بتأويله بظهر علمه فيصير مسببًا عن الرضا مترتبًا عليه {فَأنزَلَ السكينة عَلَيْهِمْ} أي الطمأنينة والأمن وسكون النفس والربط على قلوبهم بالتشجيع، وقيل: بالصلح وليس بذاك، والظاهر أنه عطف على {عِلْمٍ}.
وفي الإرشاد أنه عطف على {رَضِيَ} وظاهر كلام أبي حيان الأول وحيث استحسن تفسير ما في القلوب بما سمعت آنفًا قال: إن السكينة هنا تقرير قلوبهم وتذليلها لقبول أمر الله تعالى، وقال مقاتل: فعلم الله ما في قلوبهم من كراهة البيعة على أن يقاتلوا معه صلى الله عليه وسلم على الموت فأنزل السكينة عليهم حتى بايعوا وتفسر {السكينة} بتذليل قلوبهم ورفع كراهة البيعة عنها، ولعمري أن الرجل لم يعرف للصحابة رضي الله تعالى عنهم حقهم وحمل كلام الله تعالى على خلاف ظاهره {وأثابهم فَتْحًا قَرِيبًا} قال ابن عباس وعكرمة وقتادة وابن أبي ليلى وغيرهم: هو فتح خيبر وكان غب انصرافهم من الحديبية، وقال الحسن: فتح هجر، والمراد هجر البحرين وكان فتح في زمانه صلى الله عليه وسلم بدليل كتابه إلى عمرو بن حزم في الصدقات والديات.
وفي (صحيح البخاري) أنه صلى الله عليه وسلم صالح أهل البحرين وأخذ الجزية من مجوس هجر والفتح لا يستدعي سابقة الغزو كما علمت مما سبق في تفسيره فسقط قول الطيبي معترضًا على الحسن: إنه لم يذكر أحد من الأئمة أنه صلى الله عليه وسلم غزا هجرًا.
نعم إطلاق الفتح على مثل ذلك قليل غير شائع بل قيل هو معنى مجازي له، وقيل: هو فتح مكة والقرب أمر نسبي، وقرأ الحسن ونوح القاري {وأتاهم} أي أعطاهم.
{وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا} هي مغانم خيبر كما قال غير واحد، وقسمها عليه الصلاة والسلام كما في حديث أحمد وأبي داود والحاكم وصححه عن مجمع بن جارية الأنصاري فأعطى للفارس سهمين وكان منهم ثلثمائة فارس وللراجل سهمًا، وقيل: مغانم هجر.
وقرأ الأعمش وطلحة ورويس عن يعقوب، ودلبة عن يونس عن ورش وأبو دحية وسقلاب عن نافع والانطاكي عن أبي جعفر {تَأْخُذُونَهَا} بالتاء الفوقية والالتفات إلى الخطاب لتشريفهم في الامتنان {وَكَانَ الله عَزِيزًا} غالبًا {حَكِيمًا} مراعيًا لمقتضى الحكمة في أحكامه تعالى وقضاياه جل شأنه.
{وَعَدَكُمُ الله مَغَانِمَ كَثِيرَةً} هي على ما قال ابن عباس ومجاهد وجمهور المفسرين ما وعد الله تعالى المؤمنين من المغانم إلى يوم القيامة {تَأْخُذُونَهَا} في أوقاتها المقدرة لكل واحدة منها {فَعَجَّلَ لَكُمْ هذه} أي مغانم خيبر {وَكَفَّ أَيْدِىَ الناس عَنْكُمْ} أيدي أهل خيبر وحلفائهم من بني أسد وغطفان حين جاءوا لنصرتهم فقذف الله تعالى في قلوبهم الرعب فنكصوا، وقال مجاهد: كف أيدي أهل مكة بالصلح، وقال الطبري: كف اليهود عن المدينة بعد خروج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية وإلى خيبر، وقال زيد بن أسلم وابنه: المغانم الكثيرة الموعودة مغانم خيبر والمعجلة البيعة والتخلص من أمر قريش بالصلح، والجمهور على ما قدمناه، والمناسبة لما مر من ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بطريق الخطاب وغيره بطريق الغيبة كقوله تعالى: {لَّقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المؤمنين إِذْ يُبَايِعُونَكَ} [الفتح: 18] تقتضي على ما نقل عن بعض الأفاضل أن هذا جار على نهج التغليب وإن احتمل تلوين الخطاب فيه، وذكر الجلبي في قوله تعالى: {فَعَجَّلَ لَكُمْ هذه} الخ إنه إن كان نزولها بعد فتح خيبر كما هو الظاهر لا تكون السورة بتمامها نازلة في مرجعه صلى الله عليه وسلم من الحديبية وإن كان قبله على أنها من الأخبار عن الغيب فالإشارة بهذه لتنزيل المغانم منزلة الحاضرة المشاهدة والتعبير بالمضي للتحقق انتهى، واختير الشق الأولى، وقولهم: نزلت في مرجعه عليه الصلاة والسلام من الحديبية باعتبار الأكثر أو على ظاهره لكن يجعل المرجع اسم زمان ممتد.
وتعقب بأن ظاهر الأخبار يقتضي عدم الامتداد وأنها نزلت من أولها إلى آخرها بين مكة والمدينة فلعل الأولى اختيار الشق الثاني، والإشارة بهذه إلى المغانم التي أثابها إياها المذكورة في قوله تعالى: {وأثابهم فَتْحًا قَرِيبًا وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا} [الفتح: 18، 19] وهي مغانم خيبر، وإذا جعلت الإشارة إلى البيعة كما سمعت عن زيد وابنه وروى ذلك عن ابن عباس لم يحتج إلى تأويل نزولها في مرجعه عليه الصلاة والسلام من الحديبية {وَلِتَكُونَ ءايَةً} الضمير المستتر، قيل: للكف المفهوم من {الذى كَفَّ} والتأنيث باعتبار الخبر، وقيل: للكفة فأمر التأنيث ظاهر.
وجوز أن يكون لمغانم خيبر المشار إليها بهذه والآية الأمارة أي ولتكون أمارة للمؤمنين يعرفون بها أنهم من الله تعالى بمكان أو يعرفون بها صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في وعده إياهم فتح خيبر وما ذكر من المغانم وفتح مكة ودخول المسجد الحرام، واللام متعلقة إما بمحذوف مؤخر أي ولتكون آية لهم فعل ما فعل أو بما تعلق به علة أخرى محذوفة من أحد الفعلين السابقين أي فعجل لكم هذه أو كف أيدي الناس عنكم لتنتفعوا بذلك ولتكون آية، فالواو كما في الإرشاد على الأول اعتراضية وعلى الثاني عاطفة، وعند الكوفيين الواو زائدة واللام متعلقة بكف أو بعجل {وَيَهْدِيَكُمْ} بتلك الآية {صراطا مُّسْتَقِيمًا} هو الثقة بفضل الله تعالى والتوكل عليه في كل ما تأتون وتذرون.
{وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21)}.
{وأخرى} عطف على {هذه} في {فَعَجَّلَ لَكُمْ هذه} [الفتح: 20] فكأنه قيل فعجل لكم هذه المغانم وعجل لكم مغانم أخرى وهي مغانم هوازن في غزوة حنين، والتعجيل بالنسبة إلى ما بعد فيجوز تعدد المعجل كالابتداء بشيئين، وقوله تعالى: {لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا} في موضع الصفة ووصفها بعدم القدرة عليها لما كان فيها من الجولة قبل ذلك لزيادة ترغيبهم فيها، وقوله تعالى: {قَدْ أَحَاطَ الله بِهَا} في موضع صفة أخرى لأخرى مفيدة لسهولة تأتيها بالنسبة إلى قدرته عز وجل بعد بيان صعوبة منالها بالنظر إلى قدرتهم، والأحاطة مجاز عن الاستيلاء التام أي قد قدر الله تعالى عليها واستولى فيه في قبض قدرته تعالى يظهر عليها من أراد، وقد أظهركم جل شأنه عليها وأظفركم بها، وقيل: مجاز عن الحفظ أي قد حفظها لكم ومنعها من غيركم، والتذييل بقوله سبحانه: {وَكَانَ الله على كُلّ شَىْء قَدِيرًا} أوفق بالأول، وعموم قدرته تعالى لكونها مقتضى الذات فلا يمكن أن تتغير ولا أن تتخلف وتزول عن الذات بسبب ما كما تقرر في موضعه، فتكون نسبتها إلى جميع المقدورات على سواء من غير اختصاص ببعض منها دون بعض وإلا كانت متغايرة بل مختلفة، وجوز كون {أخرى} منصوبة بفعل يفسره قد أحاط الله بها مثل قضى.
وتعقب بأن الأخبار بقضاء الله تعالى بعد اندراجها في جملة الغنائم الموعود بها بقوله تعالى: {وَعَدَكُمُ الله مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا} [الفتح: 20] ليس فيه مزيدة فائدة وإنما الفائدة في بيان تعجيلها، وأورد عليه أن المغانم الكثيرة الموعودة ليست معينة ليدخل فيها الأخرى، ولو سلم فليس المقصودة بالإفادة كونها مقضية بل ما بعده فتدبر، وجوز كونها مرفوعة بالابتداء والجملة بعدها صفة وجملة قد أحاط الخ خبرها، واستظهر هذا الوجه أبو حيان، وقال بعض الخبر محذوف تقديره ثمت أو نحوه، وجوز الزمخشري كونها مجرورة باضمار رب كما في قوله:
وليل كموج البحر أرخى سدوله

وتعقبه أبو حيان بأن فيه غرابة لأن رب لم تأت في القرآن العظيم جارة مع كثرة ورود ذلك في كلام العرب فكيف تضمر هنا، وأنت تعلم أن مثل هذه الغرابة لا تضر، هذا وتفسير الأخرى بمغانم هوازن قد أخرجه عبد بن حميد عن عكرمة عن ابن عباس واختاره غير واحد، وقال قتادة.
والحسن: هي مكة وقد حاولوها عام الحديبية ولم يدركوها فأخبروا بأن الله تعالى سيظفرهم بها ويظهرهم عليها، وفي رواية أخرى عن ابن عباس والحسن، ورويت عن مقاتل أنها بلاد فارس والروح وما فتحه المسلمون، وهو غير ظاهر على تفسير المغانم الكثيرة الموعودة فيما سبق بما وعد الله تعالى به المسلمين من المغانم إلى يوم القيامة، وأيضًا تعقبه بعضهم بأن {لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا} يشعر بتقدم محاولة لتلك البلاد وفوات دركها المطلوب مع أنه لم تتقدم محاولة.